الطنادب (ج1)

فارقت اطارات اللوري، العتيقة، وجه شارع الأسفلت، غير آسفة على فراق وجهه المجدور، المتشقق كما قاع نهر اسطوري، ابتلعت مياهه رمال الصحراء، بشبقها الأنثوي لاحتضان كل ما يدب على ظهرها.
فارقته الإطارات؛ لتستقبلها غلالات الغبار المنتشر من الأرض "الفرناغه"، لتلقي خلف اللوري شريطين من الغبار، يمتدان لوهلة على خط التوازي؛ ثم يشتبكان نهراً الى أقصى بحر ظلمات الفراغ. في هذا الصقع المحتفي بالعدم اغلب أيام السنة؛ حيث تتجلى نفاسة الحياة؛ في ضآلة حجم الأشياء وتماسكها. لا شيء يبدو أضخم من أساس انغراسه في الجانب الحي من معادلة الحياة/ الموت؛ لا كرش يتهدل؛ أو ضرع يفيض عن حاجة الرضيع؛ في البهائم والبشر سواء..
كل شيء يبدو في تمام وجوده المبرر؛ بميزة ما تصنفه في مملكة الأحياء؛ لا أوراق تتساقط من النباتات؛ التي تتعضى جذورها؛ أفواها مشرعةً، تنتزع الندى من الهواء في السَحَر، ومن مسام قلب الرمال طيلة النهار. الحياة نفسها في هذا الصقع، تحب الاختصار؛ وتمارسه اختزالاً لجلباب النباتات الفضفاض في نبات وحيد "الطندب".
اغتسلت شجيرات الطندب بالغبار المنتشر من اطارات اللوري، وهو يلفح اغصانها الصابرة؛ صبر الانسان على جدب الحياة في مجموعة القرى الصغيرة المتجاورة، المتناثرة على فسيفساء الرمال والفرناغه والسفاية في الصقع.
قرية الطنيدبه او "التنيدبه" كما تسحلها حلوق أهلها، تحتفي بمقدم البص/اللوري كما هلال عيد يهل عليهم يومياً. تشرئب اعناق الأهالي؛ عبر حوائط الجالوص الواطئة؛ عسى أن يجلب اللوري – البص في عرفهم- قريب غائب. دون ادنى أمل في غريب قادم للطنيدبه.


-2-
بالجري يحتفي الصغار بمقدم البص، يجري الصغار المغبرون دون العاشرة بملابسهم المصبوغة بلون الأرض، يتسابقون نحو القهوة اليتيمة، التي تربض في الجانب الغربي للطنيدبه، وكل يحمل في يديه بيضاً مسلوقاً. صياحهم يطول بمدى الغبار في الأفق.
- المِح، المِح، الِمح
الناظر للدروب الثعبانية للقرية الجديبة، لا يرى ريشةً تهبها "الهبوب"، ناهيك عن "جدادة" بكامل أناقة ريشها. من أين يأتي الصبية "بالمح"؟، ستظل الاجابة لغزاً يمد لسان الغموض في وجه مثلث برمودا.
يحاصر الصبية البص قبل وقوفه تماماً، أمام القهوة. سائق البص في ابتهاج عريس؛ لا يداري ابتهاجه، بل يشجع الأطفال، بإطلاق بوري البص، بنغمات راقصة، تختلط بنغمات صياح الأطفال:
- المِح، المِح، الِمح
يبدأ ركاب البص في النزول، بعضهم ينفض الغبار عن ملابسه، بينما يتورع عن ذلك محترفو السفر في هذا الطريق، لأنها نظافة مؤقتة، تزول بمجرد مواصلة البص لرحلته.
عمال القهوة، المنحولون، ينشطون أمام حلل الطعام، و"الكفاتير" الأثرية الضخمة، يمور المحل بالحركة في كل اتجاه، صلاة؛ استرخاء؛ أكل؛ تصليح مزاج حسب ما يقتضيه الحال. تختلط روائح الشاي والقهوة والتمباك، بالدوائر المتلاشية في الهواء من دخان السجائر المحلية.

تعليقات

المشاركات الشائعة