حكايات قديمة - محمد ولد (الجزء الأول)

محمد ولد


دقيقة البنية، نشطة، ومحاربة لا تقهر، هكذا عرفت بين صبيان الحي في تلك المدينة، ولم يسلم منها حتى اخوتها الذكور في البيت. هي في العاشرة او الحادية
عشر من عمرها،
الهوايات: التشريك لود ابرق وعشوشة وذبحها عن طريق الخنق وكسر الرأس، ثم اشعال النار عن طريق جمع القش اليابس ومكسور الحطب وايقاد النار للشوي، هواية مفضلة مصارعة الفتيان والتغلب عليهم بفنيات الاخضاع المعروفة لدى الفتيان بإسم (الكربون) هي كانت تستمتع بكربنة كل الأولاد في الحي في عمرها او اكبر منها بقليل.
برنامجها اليومي: الذهاب للمدرسة شر لا بد منه. بعد العودة وهرجة الوالدة فيها بسبب شعرها المنكوش كشعر الشياطين، تخرج من باب البيت لا تلوي على أنوثة ما.. حبوبتها دائما توشح لها مقولة "انتي يا القاهر.. قهرتك بالبزوروه التكارين" في وقت كانت مشقة الحج لا يحتملها الا أهل تكرور او تكرون في عرف حبوبتها..

محمد ولد هي فرتاقة الصفوف ومفرزعة الجماعات في حال لم تكن هي الرئيس، كدا بس عجبكم ولا ما عجبكم. تخرج من البيت لأقرب لمة صبيان لترأس أي نشاط سواء كان حملات صيد بالنبل وهي متخصصة في الصيد بالنبلة،او ان كان الموسم موسم لعب بعربات السلوك فهي تقلع اجمل عربة من أي ولد.. وان صعب الأمر تقوم بتفجيخها.. كية كدا ورجالة منها.

حكايات حسن و محمد ولد:


حسن ابن الجيران يكبر محمد ولد بعام على الأكثر، وتفكيره يسبق عمره بسنوات قليلة، وهو عنيد ,صعب المراس ولا يهزم بسهولة.. يعني ممكن نقول (التقى جيل البطولات بجيل التضحيات)، في يوما ما قابلها وهي عائدة من الدكان، ولا تظنوا انها ترسل للدكان لوجه الله فلا بد ان تقبض ثمن مشوارها قبل تحركها للدكان، لتشتري حلاوة حربة او سندباد او أي حلوى أخرى. قابلها تعيس الحظ وألقى في وجهها عبارة "وين يا سكر" وهو يمني قلبه الغض بإبتسامة او حمرة تعلو وجهها من الخجل، فكان الرد مؤلما، كمية من الطوب والحجارة ولم ينج منها إلا بإطلاق ساقيه للريح..
 

 ويليام والاس

منذ تلك الجرية التاريخية والتي أعادها الزمان يوم أن جرى حسين خوجلي ناجيا بجلده من طلاب جامعة الجزيرة (في تلك الأيام كان خوجلي من المنافحين ثقافيا وبلا تحفظ عن حكومة السجم دي) الفرق الوحيد في الاعادة أن جرية حسين خوجلي كان لها إيقاع.. وجرية حسن جرية شتراء ساي..

منذ تلك الجرية قرر حسن ان يثأر لكرامته المشتتة في عجاج الطريق، وأن يقهر محمد ولد.. واخذ يضع الخطط ويتسنح الفرص لذلك.

للأولاد لعبة مفضلة في ذلك الموسم، والمعروف أن اطفال السودان كانوا يلعبون الالعاب على مواسم او فترات، فهناك فترة تكون للبلي، وفترة للعب حرينا "شدت" ، وفترة للعب بعربات السلوك او العربات المصنوعة من صفيح علب اللبن او اي صفيح اخر، ومواسم للعب بالترتار....الخ من الالعاب، حيث تجد أطفال كل البلد يلعبون نفس اللعبة..

وجرية حسن كانت في موسم عمل عربات السلوك ولعب لعبة شدت" حرينا"، اجتمع صبيان الحي في ظهيرة الجمعة للعب هذه اللعبة، وهي من ألعاب الأولاد وتتميز بالعنف والشدة، حيث يرفع الشخص قدمه ويطويها خلف ظهره ويثبتها في موقعها بالامساك بها بإحدى اليدين، لتكون اليد الأخرى حرة، للدفاع او للهجوم على الميس، حسب موقعك في اللعبة، يتم الدفاع عن، او الهجوم بدفع الشخص الآخر من الفريق الخصم بقوة بنية اسقاطه في الأرض ليخرج بعدها من ساحة اللعب ويكون "ميت" لأن السقوط يعني الموت في عرف اللعبة..

ما أن بدأت اللعبة حتى قدمت عليهم محمد ولد مسرعة، فتغامز الفتية أن لها سكاكات وليس كرعين زي كرعين خلق الله، وذلك لرقة ساقيها، والتي تستفيد من عظامهما في كبع أي لاعب آخر مسببة له عاهة تمنعه من اللعب لأسابيع.. حضرت ودخلت إلى منتصف الملعب وهي غازة كيعانها في وسطها علامة للتحدي والخرخرة في نفس الوقت.. كيف تبدأ اللعبة قبل حضورها؟ تلفتت يمينا ويساراً محدقة بقوة في وجوه الأولاد في منظر يذكرك بفيلم بريف هارت Braveheart
ويا لها من ويليام والاس خاص جدا..

في الميدان


لم يجرؤ أحد من الصبيان على الوقوف في وجه هذه الشكلة الجاهزة، وصاحبنا حسن يتبسم من على البعد وهو راقد على رأي، قامت محمد ولد بشك اللعبة من البداية وتقسيم اللاعبين على فريقين ولحسن سوء حظ حسن، وقع ضمن تشكيلة الفريق الخصم، وبدأ اللعب، فريق محمد ولد يدافع عن ميسه وفريق حسن يهاجم للوصول للميس، وتساقط اللاعبون واحداً تلو الآخر، وتواجه حسن ومحمد ولد كالثورين المنتطحين، اندفع حسن ناحية محمد ولد وبكل قوته دفعها بيده اليمنى من صدرها وغمز لها بعينه في نفس اللحظة. لم تستفز محمد ولد الدفعة على الصدر الممسوح كصدر الأولاد، بقدر ما غاظتها غمزة العين، فقفزت على عنق حسن بواحد قبضة كربون ملقية به على الأرض وهي ما زالت متحكمة في كربنتها للولد المقهور وهي تصيح: تهبشني في صدري أنا يا....
وحسن من تحتها قد انقطع نفسه واحمرت عنقه.... واجتمع فوقها ثلاثة او أربعة صبيان وبكل ما أوتوا من قوة يحاولون تخليص حسن قبل أن تزهق روحه..
تفرتقت لمة الصبيان وزهدوا في اللعبة في ذلك اليوم بسبب محمد ولد..


 

في تلك المرحلة الغضة لا يستطيع الصبيان أو البنات فهم مشاعر الحب بسهولة لذا قد تخرج في شكل أي سلوك تعبيري وقد يكون سلوكاً عدوانيا أو كراهية غير مبررة، فمحمد ولد تكره حسن وحسن يحاول دوماً مضايقة محمد ولد مع قناعته التامة بشراستها التي لا تطاق. وهنا صدق أن الكلب بريد خناقو على صاحبنا حسن.

 

العربة 

وحسن له مهارات متعددة فموهبته الفنية في صنع عربات السلوك وزركشتها لا يضاهيه فيها أي صبي في الحي أو الأحياء المجاورة، قد تجده صنع نسخة مصغرة من لوري أو بص أو عربة بوكس وركب لها بوري عبارة عن صفارة بلاستيكية وخطرات وكشافات نور في الأمام من لمبات الكشافات التي تعمل بالبطارية ويقوم بوصلها بحجارة البطارية فيشتغل نور العربة..
أي أن عمل حسن كان تحفة فنية بمقاييس الجمال، وهكذا كان الصبيان يطلبون صداقته ليسهم في تعديل ما صنعوه من عربات سلوك، والبعض الذي لا يجيد صناعتها من الصبيان كان يشتري منه عربة أو يطلب من حسن صنع عربة بمواصفات محددة.
وهنا نقطة ضعف محمد ولد، حيث لم يكن لديها الخبرة الكافية للتعامل مع السلوك وسلك التربيط وكل مستلزمات صناعة عربية سلوك، فتملقت أمها يومين كاملين لتشتري لها عربية سلوك، فجرتها أمها من يدها إلى منزل والدة حسن، وبعد السلام ومستلزماته نودي على حسن أن بوركت، فاصنع لهذه الفتاة عربية سلوك، واستلم فلوسه عداً نقداً، ولإبداء حسن النية والود من جانب حسن، فقد قام بتسليمها فوراً عربته الخاصة به، والتي تفوق أي عربة أخرى صنعها من حيث الحجم وإتقان تفاصيلها وزركشتها التي وصلت أنه علق على جانب العربة اللوري ما يشكل سعن المويه وبالداخل اللستك الاسبير وبرميل الجاز وصناديق الخشبية للتندة وصاجات اللوري على الجانبين وبعض الركاب مع حيواناتهم وعفشهم..
ورجعت محمد ولد مسرورة تباهي كل الحي بعربتها الجديدة.
لكن لم تدم هذه الهدنة طويلاً، إذ أن حسن قد طور بعض العادات السيئة في نظر محمد ولد.
بعد الخروج من المدرسة يقود حسن عربته خارج المنزل ويربط الشارع لكل البنات، بحس أنه زول كبير فقد أخذ يمارس هواية المشاغلة، ولا يستثني بنتاً، فإن كانت قريبة منه رمى في وجهها بعبارته الشهيرة "وين يا سكر" وان كانت بعيدة حياها بصفارة طويلة، يقوم فيها بإدخال إصبعين في فمه ويثني لسانه للأسفل مع رفع أطراف اللسان من الجانبين لأعلى سقف الحلق، وينفخ ، فتخرج صفارة طويلة وعالية الصوت يقوم هو بتنغيمها حسب مقدار المشاغلة التي يرغب في إيصالها للبنت.
  

شجاعة 

كانت محمد ولد في الصف السادس وقررت لهم المدرسة حصة إضافية عقب اليوم الدراسي مباشرة، وفي نهاية الحصة وقد فارقت محمد ولد آخر صويحباتها وعرجت إلى الدرب المؤدي لمنزلهم، إذ بحسن في نهاية الطريق وهو يقود عربته الجميلة المزركشة، فأرسل لها صفارة مشاغلة طويلة الموجة وبقوة 10 درجات على مقياس ريختر للحب الطفولي. و وقف في انتظار رد الفعل فمحمد ولد تقترب منه مبتسمة الوجه وبخطوات واسعة. حتى توقفت أمامه تماماً.
وإذ بمحمد ولد تقفز لأعلى وتهبط على عربية السلوك الجديدة وتكرر القفز والهبوط على العربة وهي تصيح "حمار... حمار.. كلب... كلب"
حتى ألصقت عربية السلوك بالأرض تماماً. وحسن لا يبدي حراكاً فقد شلته المفاجأة. والتفتت لحسن موجهة لكمة خطافية لأعلى صدره مكان التقاء الأضلع فانحنى حسن للأسفل، فأردفتها "بأم دلدوم" كاربة على ظهره.
لم يصرخ حسن.
بل التفت إليها قائلا: دقيتيني زمان ودقيتيني اسه، وما بردها ليك لأنك بنت، لو كنت ولد كان وريتك ليه..

رجع خطوتين للوراء وأردف قائلا:
وزي ما قالوا ضرب الحبيب ألذ من أكل الزبيب
قالها ومعها ضحكة عالية، وأطلق ساقيه للريح، لأنه يعرف تماماً شكل الرد الذي ينتظره..
 

تعليقات

المشاركات الشائعة